إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ..} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ..} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا..} [الأحزاب:70].
أيها المؤمنون!
النظر في الآيات سبيل للبصيرة والإدكار، وقائد للإيمان واليقين، وطريق لإمتلاء الجنان بتعظيم المولى وقدرِه قدرَه. ومن أعظم الآيات التي أمر الله جل وعلا بالتفكر فيها والنظر إلى عجيب صنعها نفوسُنا التي بين جنبينا. يقول الله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، ويقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم:8].
بل جعل سبحانه التأمل في تلك النفوس دليلاً موصلاً لإستقرار التوحيد في القلوب، يقول عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، ولذا كان العلم بما يصلح هذه النفوس أعظمَ العلم وأجدرَه بالطلب والإيعاب، فالمرء بنفسه، يرتفع بها ويُخفض، يشقى بها ويسعد، يصلح بها ويفسد، يحيا بها ويموت.
هذا، وإن أعظم ما يُصلح النفوس تزكيتها، حين تُطهّر من دنس الأخلاق ورجس الذنوب وتُحلّى بزكيّ السجايا وصالح العمل، فيزداد خيرها ويذهب شرها، إذ ما جُبلت عليه من السوء أكثر مما جبلت عليه من الخير، ولذا كانت أعدى الأعداء، وكان الجهاد الحقيقي معها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
إن تزكية النفوس من كبرى مقاصد الرسالات الإلهية وبعث الرسل، فقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى*وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:17-19]، وقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، ويقول رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» رواه أحمد وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وتزكية النفس سبيل فلاحها وسلامتِها من عقبى الخيبة، كما أكدّه المولى جل وعلا بأحد عشر قَسَماً: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا*وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا*وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا*وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا*وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا*وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَوَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1-10]. وبتلك التزكية يُذاق طعم الإيمان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من فعلهن فقد طَعِم طَعْم الإيمان»، وذكر منها: «وزكّى نفسه» رواه الطبراني وصححه الألباني.
ودرجات الجنة العلى جزاء من تزكى، يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا*جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75-76]، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم علوَّ ذلك النزل في قوله: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» رواه الترمذي وحسنه وصححه الألباني.
إن زكاة النفس منّة يكرم الله سبحانه بها من سبقت له الحسنى لديه، تفضلاً ورحمةً لا إستحقاقاً، يقول الله سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
وإنّ طلب المكلّف تلك المنّة فرض لازم عليه، وذلك بفعل ما تزكو به نفسه من الأعمال التي شرع الله جل وعلا، وأعظم تلك الأعمال توحيد الله سبحانه، فالتوحيد أعظم ما تُزكّى به النفوس، والشرك أقبح ما تَنْجس به، يقول الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6،7] أي: التوحيد.
والصلاة من خير ما تزكى به النفس، خاصة المكتوبات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
والصدقة الواجبة والمستحبة من سبل تزكية النفس، يقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. وغض البصر عن رؤية الحرام مما تزكو به النفس، يقول الله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
والدعاء سبب قوي لحصول التزكية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوات ويعلِّمها أصحابه: «اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» رواه مسلم.
ومراقبة الله جل وعلا وإستحضار قربه مما تزكّى به النفوس، بل فسّر النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفس به، فقد سأله رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان» رواه الطبراني وصححه الألباني.
ومحاسبة النفس سبيل لتزكيتها، يقول ابن القيم: إِنَّ زَكَاتَهَا وَطَهَارَتَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا، فَلَا تَزْكُو وَلَا تَطْهُرُ وَلَا تَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا. قَالَ الْحَسَنُ رضي الله عنه: إِنَّ الْمُؤْمِنَ- وَاللَّهِ- لَا تَرَاهُ إِلَّا قَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَةٍ؟ مَا أَرَدْتُ بِمَدْخَلِ كَذَا وَمَخْرَجِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِهَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَبِمُحَاسَبَتِهَا يَطَّلِعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا، فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا.
والتوبة إلى الله والإنابة إليه جادة التزكية، يقول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. يقول شيخ الإسلام: وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ فِي الْبَدَنِ، وَمِثْلُ الدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ، فَإِذَا إسْتَفْرَغَ الْبَدَنُ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ كَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الزَّائِدِ تَخَلَّصَتْ الْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَرَاحَتْ فَيَنْمُو الْبَدَنُ، وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ كَانَ إسْتِفْرَاغًا مِنْ تَخْلِيطَاتِهِ حَيْثُ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَإِذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ تَخَلَّصَتْ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ مِنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ.
والتزكية وصف خفيّ إستأثر الله سبحانه بعلم حقيقته، فلا يُجزم بتزكية مخلوق مهما بلغ في تقاه، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49]، قال ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْدُوَ مِنْ بَيْتِهِ وَمَعَهُ دِينُهُ، فَيَأْتِي الرَّجُلَ لَا يَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيَقُولُ: وَاللَّهِ! إِنَّكَ كَيْتَ وَكَيْتَ!! وَيَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:49]، وأَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «وَيْلَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ» رواه البخاري ومسلم.
بل كره أهل العلم أن يُسمّي المرء باسمٍ فيه تزكية له كمؤمن وزكي وإيمان وصلاح الدين، قال مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ رحمه الله: سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ، فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنهما: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْمِ، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ» فَقَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: «سَمُّوهَا زَيْنَبَ» رواه مسلم.
وأجمل حالٍ بلغتَ به *** كمالاً وعزاً بإمكانية
جهادٌ لنفسك تسمو به *** وحرصُك دوماً على تزكية
الكاتب: محمد بن عبد الله السحيم.
المصدر: موقع شبكة الالوكة.